توصل المجلس العسكري الانتقالي في السودان وتحالف قوى "إعلان الحرية والتغيير"، في 17 يوليو 2019، إلى اتفاق سياسي لتقاسم السلطة في البلاد خلال الفترة المقبلة. ومن شأن هذا الاتفاق أن يعمل على تحسين الأوضاع الاقتصادية في البلاد، التي تدهورت في الأشهر الماضية، وبدا ذلك جليًا في نقص السلع الأساسية من الوقود والقمح بجانب تفاقم مشكلة نقص السيولة لدى البنوك. وعلى الرغم من التبعات الإيجابية المحتملة للاتفاق على الاقتصاد، إلا أن ذلك لا يقلص من أهمية القيام بخطوات عديدة لتحقيق الاستقرار الاقتصادي، يأتي في مقدمتها تشكيل حكومة مستقرة قادرة على وضع برنامج اقتصادي يعالج الاختلالات النقدية والمالية، ويساعد على توفير السلع الحيوية، ويدعم نمو القطاعات الإنتاجية الأساسية مثل الزراعة والتعدين.
تحديات قائمة:
واجهت السودان في الفترة الماضية أزمة اقتصادية حادة ناتجة بشكل رئيسي عن نقص العملات الأجنبية بسبب تراجع عائدات النفط بعد فقدان الخرطوم أكثر من ثلاثة أرباع حقولها من النفط منذ انفصال جنوب السودان في عام 2011. وعلى ضوء ذلك، لم تجد الحكومات المتعاقبة الموارد الكافية لاستيراد احتياجاتها من الوقود والقمح، فيما تفاقمت مشكلة نقص السيولة في البنوك، والتي نجمت عن الطلب الواسع على البنكنوت مع ارتفاع معدلات التضخم لأكثر من 50% في الأشهر الماضية.
ومع تفاقم الاضطرابات السياسية عقب تنحية الرئيس السابق عمر البشير، زادت حدة المشكلات الاقتصادية بشكل لافت، حيث تعطلت بعض المنشآت الإنتاجية عن العمل، على نحو تسبب في شح بعض السلع في الأسواق، التي شهدت حالة من الركود بحسب المتعاملين والتجار.
وبالتوازي مع ذلك، تعرض سعر صرف الجنيه لضغوط قوية وانخفض إلى أكثر من 70 جنيهًا مقابل الدولار الواحد منذ بداية العام الجاري، قبل أن يتحسن لاحقًا. ومن المرجح على ضوء التطورات الأخيرة أن تتراجع تدفقات الاستثمار الأجنبي، بعد أن تزايدت المخاطر السياسية والاقتصادية بشكل غير مسبوق.
وعلى هذا النحو، تشير توقعات بعض المؤسسات الدولية إلى أن الاقتصاد السوداني مرشح للتراجع بنهاية العام الجاري، حيث قال صندوق النقد الدولي أن الاقتصاد انكمش بالفعل بنسبة 2.1% عام 2018، ومرشح أن يتفاقم إلى 2.3% بنهاية عام 2019، كما من المتوقع أن يسجل معدل التضخم نحو 49.6% بنهاية العام الجاري وبانخفاض نسبي من 64.3% عام 2018.
تداعيات مباشرة:
شهدت السودان توترات سياسية وأمنية واسعة منذ تنحية البشير، قبل إبرام اتفاق بين المجلس العسكري الانتقالي وتحالف قوى "إعلان الحرية والتغيير"، في 17 يوليو الجاري، وهو ما يمثل خطوة جوهرية لدعم الاستقرار السياسي في البلاد خلال الفترة المقبلة.
وبمجرد توقيع الاتفاق، شهد سعر صرف الجنيه تحسنًا نسبيًا، حيث وصل سعر شراء الدولار في السوق السوداء إلى نحو 61 جنيهًا مقارنة بـ65 جنيهًا في الفترة السابقة، وذلك في إشارة واضحة للتبعات الإيجابية للاستقرار السياسي على مؤشرات الاقتصاد. كما قد تتلقى السودان دعمًا أكبر مع الاتجاه لإقرار الدستور في الفترة المقبلة.
ومن المنتظر أن يساعد هذا التقدم السياسي في تيسير حصول السودان على الدعم المالي الإقليمي والدولي اللازم لتقليص حدة الأزمة الاقتصادية التي تواجهها. ويرجح أيضًا أن يدعم الاتفاق وإقرار الدستور الجهود الحالية التي تبذلها السودان لجدولة بعض ديونها، والتي بلغت قرابة 55 مليار دولار، وهو ما قد يخفف الأعباء المالية عليها لصالح توفير الاحتياجات الأساسية من السلع.
وربما يتمثل المكسب الأكبر للسودان بعد توقيع الاتفاق في اقتراب الولايات المتحدة الأمريكية من رفعها من قائمة الدول الراعية للإرهاب. وفي هذا الصدد، قال القائم بأعمال السفارة الأمريكية في الخرطوم ستيفن كوتيسيس، في 8 يوليو الجاري، أن "رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب بات أمرًا وشيكًا".
فضلاً عن ذلك، يمهد استقرار الأوضاع السياسية بالسودان لاستعادة علاقاتها الاقتصادية مع دول العالم، خاصة دول الجوار الإقليمي على غرار إثيوبيا وإريتريا، وبما يعزز من المكاسب التجارية والاستثمارية للخرطوم، بجانب مواصلة تنفيذ بعض المشروعات التنموية المشتركة معها والمتوقفة بسبب الاضطرابات السياسية الحالية. كما قد يكون من بين أهم النتائج الهامة في هذا الصدد مواصلة تعاون السودان وجنوب السودان في الملف النفطي، حيث بدا أن ثمة اهتمامًا واسعًا من جانب الطرفين، في الفترة الماضية، بتطوير بعض حقول النفط مثل "الواحدة"، و"توما ثاوث" وغيرها، وهو ما يمكن أن يساعد في زيادة الإنتاج النفطي، وبما يساهم في زيادة عائدات الخرطوم من رسوم عبور تدفقات نفط جنوب السودان عبر الموانئ السودانية.
خطوات مستقبلية:
لكن رغم النتائج الإيجابية المحتملة للاتفاق السياسي الموقع مؤخرًا في السودان، لا تزال هناك خطوات عديدة يجب اتخاذها يتمثل أهمها في إقرار الدستور الجديد خلال الفترة المقبلة وتشكيل حكومة تحظى بثقة من قبل كافة الأطراف.
وينبغي على الحكومة الجديدة تبني برنامج اقتصادي عاجل يضع على قائمة أولوياته ثلاثة محاور رئيسية: يتمثل أولها، في معالجة الاختلالات النقدية والمالية التي تفاقمت في البلاد مؤخرًا، حيث من الضروري اتخاذ الإجراءات اللازمة لاستقرار سوق الصرف والحد من السوق السوداء والحيلولة دون تفاقم معدلات التضخم، بالتوازي مع تعبئة الموارد المالية من الضرائب وغيرها لزيادة إيرادات الحكومة وتقليص العجز.
وينصرف ثانيها، إلى توفير الاحتياجات الأساسية من الوقود والقمح وغيرها، والذي يعد أحد العوامل الضرورية، في الفترة المقبلة، لتحقيق الاستقرار السياسي والحيلولة دون تفاقم الاحتجاجات الشعبية مجددًا. ومن شأن المساعدات الدولية والإقليمية أن تساهم في الحد من مشكلة نقص هذه السلع في الأسواق خلال الفترة القادمة.
ويتعلق ثالثها، بتطوير القطاعات الإنتاجية الأساسية من الزراعة والتعدين. ولدى السودان إمكانيات كبيرة في قطاع الزراعة مع توافر المياه والتربة والمناخ المناسب لزراعة العديد من المحاصيل. كما لديها موارد كبيرة من المعادن وخاصة الذهب وباحتياطيات قدرها 523 ألف طن. ويمكن للخرطوم الاستفادة من تطوير البيئة التنظيمية والتشريعة لهذين القطاعين في جذب الاستثمارات الأجنبية وزيادة إنتاجها ودعم صادراتها، وبما قد يعوض، نسبيًا، تراجع عائدات قطاع النفط.
وفي النهاية، يمكن القول إن الخطوة الأخيرة الخاصة بتوقيع الاتفاق السياسي في السودان تمهد، بلا شك، إلى تحسين الأوضاع الاقتصادية، بيد أن تشكيل حكومة مستقرة في البلاد يمثل عاملاً حاسمًا قد يساعد في تحقيق الاستقرار الاقتصادي وعلاج الاختلالات القائمة بشكل جذري.